معتقلون سابقون في “صيدنايا” يتحدثون عن مشاهد مرعبة في “غرف الملح”
أدلى معتقلون سابقون في سجن صيدنايا الشهير والتابع لنظام الأسد، بشهادتهم لوكالة “فرانس برس” عن “غرف الملح” في داخل السجن، والتي يستخدمها النظام لحفظ جثث المعتقلين الذين يُقتلون بشكل شبه يومي.
ووفق ما نشرت الوكالة، فقبل نقل المعتقل عبدو (اسم غير حقيقي) من سجن صيدنايا سيء السمعة إلى المحكمة في أحد أيام شتاء 2017، دفعه أحد الحراس داخل غرفة لم يرها من قبل، فإذا بقدميه الحافيتين تغوصان في كميات من الملح الصخري.
ولم يكن عبدو البالغ من العمر 30 عاما، قد ذاق طعم الملح قبل عامين منذ دخوله إلى سجن صيدنايا سيئ الصيت قرب دمشق، الذي يمنع القيمون عليه الملح في طعام السجناء، فما كان منه إلا أن اغترف بيده كمية من الملح الذي يغطي الغرفة، واستمتع بمذاقه.
بعد دقائق قليلة، تجمد رعباً عندما تعثر بجثة نحيلة ملقاة على الملح وإلى جانبها جثتان أخريان. ويروي لوكالة الأنباء الفرنسية التجربة “الأكثر رعبا” في حياته في سجن يصفه معتقلون سابقون بـ”القبر” و”معسكر الموت” و”السرطان”.
ويقول عبدو لوكالة الأنباء الفرنسية: “بداية، قلت لنفسي: الله لا يوفقهم، لديهم كل هذا الملح ولا يضعونه في طعامنا؟!”.
بعدما تناول كمية من الملح، توجه إلى الحمام الخالي من المياه في زاوية الغرفة، وبعد خروجه منه تعثر بالجثة الأولى. ويقول “دستُ على شيء بارد، كانت رجل أحدهم”.
وتجمد عبدو من الخوف، بعدما رأى الجثث الثلاث الملقاة على الملح، وقد نُثر عليها المزيد منه، وبدأت رجلاه ترتجفان، ويقول من منزله الحالي في لبنان: “ظننت أن هذا سيكون مصيري… وأنه حان دوري لإعدامي وقتلي.
لم يتحرك عبدو من مكانه لنحو ساعة ونصف الساعة، ويضيف “كان هذا أصعب ما رأيته في صيدنايا جراء الشعور الذي عشته، ظنا بأن عمري انتهى هنا”.
ويصف عبدو الغرفة المستطيلة، 6 أمتار بالعرض و7 أو 8 بالطول، وأن أحد جدرانها من الحديد الأسود يتوسطه باب حديدي وتقع الغرفة في الطابق الأول من المبنى المعروف بالأحمر، وهو عبارة عن قسم مركزي تتفرع منه 3 أجنحة.
لم يتنفس عبدو الصعداء سوى حين عاد السجان، ووضعه في سيارة نقل السجناء، وتأكد أنه في طريقه إلى المحكمة.
في أثناء خروجه من الغرفة، رأى قرب الباب أكياس جثث سوداء فارغة مكدسة، هي ذاتها الأكياس التي نقل فيها في أحد الأيام، وبأمر من الحراس، جثث معتقلين، ويقول عبدو الذي أفرج عنه عام 2020 “في صيدنايا، قلبي مات. لم يعد شيء يؤثر بي، حتى إن قال لي أحدهم إن شقيقي مات، بات الأمر بالنسبة لي عاديا”.
ويضيف: “جراء الموت والعذاب والضرب الذي رأيته، كل شيء بات عاديا”.
من جانبه، يروي معتصم عبد الساتر البالغ من العمر 42 عاما تجربة مشابهة في غرفة مختلفة تقع في الجناح نفسه من الطابق الأول من المبنى الأحمر.
ويصف معتصم غرفة بعرض 4 أمتار وطول 5 أمتار، ولا يوجد فيها حمام، دخلها يوم 27 نيسان 2014 ويومها، شعر وكأن قلبه سيخرج من صدره من شدة الخفقان، بعدما ناداه السجان لإطلاق سراحه، ويقول إنه لا يزال يتذكر كل تفاصيل ذلك اليوم، وبينها طعام الإفطار الذي كان عبارة عن قطعة خبز و3 حبات زيتون.
ودع معتصم رفاقه وسار فرحا خلف سجانه، لكنه فوجئ بطلب منه، وهو دخول غرفة لم يرها سابقاً، ويقول من منزله في الريحانية جنوبي تركيا “غرقت قدمي في مادة خشنة. نظرتُ، فإذا به ملح بعمق 20 إلى 30 سنتيمترا”، مشيراً إلى أنه الملح الصخري ذاته الذي اعتاد على أن يرى جوالات منه على جانب الطرق خلال أيام الشتاء، والذي تستخدمه السلطات لتذويب الثلج المتراكم في الشوارع.
تذوق معتصم بعض الملح المحروم منه في السجن، لكن سرعان ما وقعت عيناه على 4 أو 5 جثث ملقاة في المكان، ويقول: “شعور لا يوصف، أصعب من لحظة الاعتقال. قلت لنفسي سيعدمونني الآن ويضعونني بينهم… أنا أساسا أشبههم”.
حين دخل معتصم السجن عام 2011، كان يزن 98 كيلوغراما، لكن حين خرج منه كان وزنه لا يتجاوز 42 كيلوغراماً.
ويضيف: “كانت الجثث تشبه المومياء، وكأنها محنطة… كانت عبارة عن هيكل عظمي مكسو باللحم يمكن أن يتفكك في أي لحظة”.
بقي معتصم في الغرفة 3-4 ساعات، ويقول: “كان الملح يذوب من تحتي، من شدة تصبب العرق مني”.
ويضيف المعتقل السابق، الذي لا يزال يتذكر أسماء أصدقاء توفوا إلى جانبه في المهجع جراء الضرب والأمراض، “ليست الجثث ما أثر بي.. بل فكرة أنني بت أنتظر إعدامي”.
ويشير المعتقلان السابقان إلى عدم انبعاث أي رائحة كريهة من الغرفتين، وإلى أنهما لم يتمكنا من تحديد سبب وضعهما فيهما لبعض الوقت. ويقول معتصم “قد يكون ذلك لإخافتنا”.
وتوثق رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا في تقرير ستنشره قريباً للمرة الأولى “غرف الملح”.
وبناء على تقرير الرابطة ومقابلات أجرتها وكالة الأنباء الفرنسية مع معتقلين سابقين، تبين أن في سجن صيدنايا العسكري “غرفتي ملح” على الأقل، توضع فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها، في حين يغيب الملح تماماً عن كميات الطعام القليلة التي يحظى بها المعتقلون، على الأرجح لإضعافهم جسدياً.