“الجسد حقيبة سفر”… شاب من مضايا يروي حكاية التهجير إلى إدلب
نيفين الدالاتي-خاص راديو الكل
“الأجساد تخرج… والروح باقية هناك”…كلمات يتنهد بها “أمجد”، والغصّة لا تفارق حنجرته وهو يروي كيف غادر بلدته ومرتع طفولته “مضايا”، التي تعلق بتفاصيل أرضها، وهوائها، وتفاحها، كمشيمة أم… شأنه شأن جميع أبناء الأرض، الذين خبرت جباههم العرق والتراب، واسمّرت تجاعيدهم بعمر صخور جبالها.
“أمجد المالح”، الشاب العشريني، الذي وصل إدلب قبل أيام، يحاول أن يألف ملامح مكانه الجديد، المختلف عن بلدته التي لها يشتاق، رغم الحصار الخانق والقصف والجوع والموت اليومي الذي عاشه فيها على مدى عامين، تناقضٌ؛ تفسّره الكاتبة “غادة السمان” بكلماتها التي تقول: “الجسد حقيبة سفر.. لكن القلب طائر ليلي مدجّج بالحنين… يغافلك دوماً ليطير صوب الوطن“.
يقول “المالح” إنه كان ينوي القيام بأشياء عدة حال خروجه من الحصار؛ إلا أن لا شيء تغير، إذ أنه فقد الرغبة حتى بأبسط مقومات الحياة كالغذاء الذي حُرم منه طويلاً، واصفاً حاله وأبناء بلدته بأنهم: “مثل السمك.. نموت لحظة نغادر أرضنا”.
رحلة التهجير التي تعاقبت مراحلها وأحداثها على عجل؛ يستذكر “المالح” ساعاتها بكثير من القهر والحيرة والدموع، وكيف حشر في حقيبة صغيرة ذكريات سنين مضت، مودّعاً وجوه ونظرات وروائح من أحبّ، وهو لا يدري إن كان سيعاود لقياها… وإن كانت نكبة فلسطين يوم 15/أيار/ 1948؛ فإن لمضايا نكبة تاريخها، يوم 14/نيسان/2017 على حد تعبير “المالح”.
ساعات الرحلة الثمانية والأربعين كانت صعبة جداً على المهجّرين؛ الذين كانت تعصف بهم مشاعر غريبة وهم يمرون في شوارع لم يرونها منذ سنوات، بعد أن غيّبهم الحصار عنها في سجنهم الكبير “مضايا”، فيما لم تخلُ عمليات التفتيش عند حواجز النظام من الإهانات والشتائم.
ويتجاوز “المالح” في حديثه معظم التفاصيل التي رافقت تحرك الحافلات، ليتوقف عند مجريات الأحداث في نقطة التبادل في كراجات الراموسة في حلب، التي وصفها بأنها تعادل سنتيّ الحصار، وساعات الترقب الثلاث التي أعقبت التفجير الذي وقع في حي الراشدين، قبل انتقال الحافلات التي تقلّ سكان ومقاتلي بلدتي كفريا والفوعة، وهو ما فجّر أسئلة كثيرة عن تداعياته المحتملة، خاصة مع تسارع الأخبار والشائعات التي كانت تهطل كالمطر على المحتجزين، الذين وصلوا إلى قناعة بأنهم باتوا بحكم الأموات.
التخوّف من المقتلة التي قد تحدث؛ وضعت “أمجد” وأصحابه أمام قرار لا تراجع عنه لحفظ أعراضهم، فقاموا بتأمين النساء والأطفال في الحافلات، وأخذوا عهداً على أنفسم بتسلق الجدران في كراجات الراموسة حال إطلاق رصاصة من الرشاشات والقناصات التي كانت متحفزة، حتى لو كلّفهم ذلك حياتهم، معللين النفس بأن “أرواحهم لن تباع بثمن بخس” على حد تعبير “المالح”، الذي أسف على تخاذل المجتمع الدولي والأمم المتحدة إزاء مأساتهم، رغم جميع المناشدات التي طالبوا فيها ضرورة التدخل الفوري والعاجل لضمان حياتهم وأبنائهم.
وعن لحظة الوصول إلى إدلب؛ أثنى “المالح” على ترحيب الأهالي وإطلاق النار ابتهاجاً بهم كونهم “أخوة في الثورة”، واستقبالهم لهم كالأبطال على حد وصفه، إلا أن نظرات ودموع أرامل الشهداء أصابتهم في مقتل، إذ أن تفجير الراشدين تسبّب بمقتل 13 شخصاً من أبناء الزبداني ومضايا، كانوا بانتظار عوائل لهم لم يرونهم منذ سنوات، ليتبدد لقاء الأحبة الذي كان جدّ قريب.
“أمجد المالح”، طالب الهندسة المعمارية الذي كان يفصله عن حلمه بشهادة التخرج فصل دراسي واحد؛ تخلى عن جامعته لأجل ثورة لا يزال يؤمن بأنها الأهم، فيما يرى بأنه وبعد تنفيذ اتفاق التهجير وتفاصيله المعقدة جداً؛ لابدّ من العمل على حق العودة والتمسك بالأرض، وإلا فإنه ما من رجوع لهم إلى بلدتهم.
هي أوجاع نقلها ابن مضايا “أمجد المالح”، في واحدة من آلاف قصص المعاناة في سوريا، التي يخرج بعضها للعلن، فيما يبقى كثير غيرها أسير قلوب أصحابها، الذين يعيشون بعد تهجيرهم حالة انفصام عن المكان والزمان، ليتحولوا من حصار جوع، إلى حصار من ذكريات، تفصلهم مشاعر الحنين فيه للأرض والبشر والشجر؛ عن العالم الخارجي بكل تفاصيله وأحداثه… ليتحولوا إلى أحياء على قيد الموت.